"طوفان الأقصى"- عام غيّر مسار القضية والمقاومة الفلسطينية

بعد مرور عام كامل على اندلاع الحرب في غزة، تبقى الكثير من التساؤلات عالقة وملحة: ما الذي كان يدور في أذهان قادة حركة حماس، وعلى رأسهم يحيى السنوار ومحمد الضيف ومروان عيسى، وهم يضعون آخر اللمسات الحاسمة على عملية "طوفان الأقصى"؟
هل تصوروا حجم التغيير الجذري الذي ستحدثه هذه العملية في مسار العمل المقاوم الفلسطيني، ومدى تأثيرها المستقبلي؟
أم أنهم توقعوا فقط أن تحدث العملية تصدعًا عميقًا داخل المجتمع الإسرائيلي، وبخاصة في ما يتعلق بنظرية الأمن القومي الإسرائيلي الراسخة، وأن تؤثر في تفاصيل الحياة السياسية الداخلية؟
وهل خطر ببالهم أن العملية ستحدث تحولًا هائلًا في الرأي العام العالمي تجاه القضية الفلسطينية، وأنها ستُشعل موجة واسعة من الدعم والتأييد لها في مختلف أنحاء العالم؟
اقرأ أيضا
list of 2 itemsفاطمة تحارب الجوع في غزة لتنقذ جنينها
أم غزية تجد ابنها بين الجثث المجهولة وتحمد الله أنه كامل
مع انقضاء عام على بدء العملية العسكرية، يتضح بجلاء أن السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 قد تحول إلى واحد من أهم الأيام المفصلية في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، وذلك لما أفرزته من تداعيات واسعة النطاق ومستمرة حتى هذه اللحظة.
تطور مفهوم العمل المقاوم
لقد جسدت عملية "طوفان الأقصى" نقلة نوعية هائلة في مستوى الأداء التراكمي للمقاومة الفلسطينية، حيث تمكنت كتائب القسام من تحقيق تقدم مذهل في مجالات الاستخبارات والأمن والقدرات العسكرية.
ففي جميع المواجهات السابقة، كان دور المقاومة يقتصر في الغالب على التصدي للهجمات الإسرائيلية ومحاولة الحد من الخسائر البشرية والمادية الناجمة عنها.
أما في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، فقد خطا المقاوم الفلسطيني خطوة عملاقة نحو امتلاك زمام المبادرة العسكرية، وتحديد توقيت الهجوم، والقدرة على تنفيذ عمليات برية وجوية وبحرية متكاملة، في أضخم هجوم تشنه المقاومة الفلسطينية ضد القوات الإسرائيلية على طول خط المواجهة.
قبل عملية "طوفان الأقصى"، كان المفهوم السائد للعمل المقاوم يرتكز بشكل أساسي على استراتيجية "الكر والفر"، ولكن ما شهدناه في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، كان عملًا عسكريًا متقنًا ومنظمًا، وسيطرة مؤقتة على أجزاء من الأرض، وتنفيذ غارات متلاحقة أدت إلى شل قدرات العدو بشكل ملحوظ، لدرجة أن رد فعله قد اختفى تمامًا لعدة ساعات، الأمر الذي شكل مفاجأة حتى لكتائب القسام نفسها، التي لم تتوقع أن تتمكن من السيطرة على ساحات القتال في منطقة غلاف غزة بهذه السهولة.
ففي غضون فترة وجيزة، استطاعت المقاومة الفلسطينية إطلاق ما يقارب 5 آلاف صاروخ وقذيفة، وفقًا لما أعلنه القائد العام لكتائب القسام محمد الضيف في كلمته المسجلة التي بُثت بعد وقت قصير من بدء العملية.
كما أسفرت العملية في غضون ساعات قليلة عن مقتل المئات من الإسرائيليين، وأسر أكثر من مائة آخرين، وإغلاق مطارات محلية، وإلغاء العديد من الرحلات الجوية المتجهة إلى مطار بن غوريون في تل أبيب.
والأهم من كل ذلك، هو نجاح المقاومة في السيطرة على مقر قيادة فرقة غزة التابعة للجيش الإسرائيلي، والاستيلاء على ثلاث مستوطنات إسرائيلية في منطقة غلاف غزة، في مشاهد غير مسبوقة تم تداولها على نطاق واسع عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
هذه التطورات الخطيرة دفعت القادة الإسرائيليين إلى الإعلان صراحة أنهم في "حالة حرب" وأن دولتهم "تمر بأوقات عصيبة".
هذا التطور الملحوظ في الأداء العسكري للمقاومة الفلسطينية يمثل علامة فارقة في مسيرة العمل المقاوم، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار أنها لا تزال تمتلك القدرة الفائقة على المواجهة والاشتباك، وإلحاق خسائر بشرية ومادية فادحة في صفوف العدو، على الرغم من الضربات الموجعة التي تعرضت لها، ونقص خطوط الإمداد، والتي تحاول تعويضها بالاعتماد على التصنيع المحلي.
لذا، فإن هذا التطور الهائل في العمل المقاوم، الذي أفرزته عملية "طوفان الأقصى"، يشير بوضوح إلى مراحل أكثر تقدمًا وتطورًا في نهج وأداء المقاومة الفلسطينية، وهو الأمر الذي يدركه تمامًا رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ولهذا السبب يصر بشدة على رفض أي وقف لإطلاق النار قبل القضاء التام على المقاومة.
التأثيرات الداخلية الإسرائيلية
إن مرحلة ما بعد "طوفان الأقصى" تختلف اختلافًا جوهريًا عما قبلها، فيما يتعلق بالوضع الداخلي الإسرائيلي، حيث تركت العملية العسكرية بصمات واضحة ومؤثرة.
فعلى الصعيد الأمني، تعرضت النظرية الأمنية الإسرائيلية لهزة عنيفة، حيث كان المفهوم التقليدي للأمن الإسرائيلي يعتمد على ثلاثة أسس رئيسية، هي: الردع، والتفوق الاستخباراتي، والحسم السريع في المعارك.
وقد تم تطوير هذه النظرية لاحقًا في ضوء تراجع التهديدات القادمة من الدول العربية، واقتصارها على مواجهة التنظيمات المسلحة داخل الأراضي الفلسطينية بشكل أساسي، وصاغت المنظومة الأمنية الإسرائيلية ثلاثة مصطلحات جديدة تعبر عن هذا التطور، وهي: "كي الوعي"، و"جز العشب"، و"المعركة بين الحروب".
لكن ما حدث في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 قد وجه ضربة قاصمة لكل هذه الأسس والمفاهيم، حيث أثبتت كتائب القسام أنها لم تردعها الحروب السابقة، ولم تخف من ردة الفعل الإسرائيلية، عندما اخترقت السياج الحدودي الفاصل، وهاجمت منطقة غلاف غزة بكل هدوء وثقة، مما كشف عن وجود خلل استخباراتي إسرائيلي فادح.
وبمقارنة سريعة مع الضربات الأمنية والعسكرية التي وجهتها إسرائيل لحزب الله اللبناني في الماضي، يتضح أن "طوفان الأقصى" سيظل كابوسًا مزعجًا وعلامة واضحة على هزيمة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية في ذلك اليوم.
كما أن الآثار العميقة التي خلفها الطوفان قد امتدت لتشمل الحياة السياسية الإسرائيلية، التي شهدت حالة واسعة من الخلافات والاضطرابات داخل الائتلاف الحاكم، بسبب قضية الأسرى الإسرائيليين المحتجزين في غزة، والجدوى من استمرار العملية العسكرية في القطاع.
لقد زعزع "طوفان الأقصى" بقوة الفكرة السائدة بأن إسرائيل تظل "وطنًا آمنًا" لليهود في جميع أنحاء العالم، حيث انخفض بشكل ملحوظ معدل الهجرة إليها، وارتفعت نسب الهجرة العكسية، التي وصلت حتى شهر يونيو/ حزيران الماضي إلى حوالي 500 ألف شخص غادروا البلاد منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول.
من هنا، أرى أن "طوفان الأقصى" سيؤدي إلى تغييرات جوهرية داخل دولة إسرائيل، سواء على المستوى الأمني أو السياسي أو الاجتماعي، ولكن ذلك يعتمد بشكل كبير على اللحظة التي ستتوقف فيها آلة الحرب عن الدوران.
إحياء القضية الفلسطينية
قبل عملية "طوفان الأقصى"، كانت القضية الفلسطينية قد وصلت إلى حالة من الجمود التام على المستويات العربية والإقليمية والدولية.
فقد كانت المنطقة بأسرها تتهيأ لتسوية عربية – إسرائيلية شاملة، تنضم فيها دول أخرى مهمة في المنطقة إلى قائمة الدول التي أعلنت تطبيع علاقاتها مع إسرائيل. وفي تركيا، كانت الإجراءات تسير بخطى ثابتة نحو إعادة العلاقات بين البلدين إلى سابق عهدها، بعد أكثر من عقد من الخلافات الثنائية الحادة.
ففي شهر مارس/ آذار 2022، استقبل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نظيره الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ في القصر الرئاسي في أنقرة، ثم التقى برئيس الوزراء بنيامين نتنياهو على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر سبتمبر/ أيلول 2023، وكان من المقرر أن يزور نتنياهو تركيا في وقت لاحق.
إلا أن "طوفان الأقصى" وما أعقبه من تداعيات قد أوقف مسيرة التطبيع العربي، وأعاد ملف القضية الفلسطينية إلى صدارة المشهد بقوة، بعد أن كان حبيس الأدراج والرفوف.
كما قامت تركيا بسحب سفيرها من تل أبيب، وأوقفت جميع التعاملات الاقتصادية مع إسرائيل، ووصل الأمر إلى إعلان انضمامها إلى جنوب أفريقيا في الدعوى القضائية التي رفعتها الأخيرة ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية.
وعلى الصعيد العالمي، سرعان ما انهارت الرواية الإسرائيلية بشأن الأحداث التي وقعت في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، بعد أن اطلع العالم بأسره على حقيقة ما جرى، ثم شاهدوا بأعينهم الوحشية الإسرائيلية المفرطة في قتل المدنيين الأبرياء في قطاع غزة.
هذه الوحشية أدت إلى اندلاع مظاهرات واسعة النطاق في مختلف أنحاء أوروبا والولايات المتحدة ودول أميركا اللاتينية وبقية دول العالم، تعبيرًا عن رفضهم للعدوان الإسرائيلي، وتأييدًا للحق الفلسطيني المشروع في إقامة دولة مستقلة ذات سيادة.
هذه المظاهرات المؤيدة للقضية الفلسطينية – التي لم تتوقف حتى الآن – لم تقتصر على الشوارع فقط، بل امتدت لتشمل الجامعات والمؤسسات الأكاديمية، خاصة في الولايات المتحدة، وشاهدنا كيف نافست الرواية الفلسطينية السردية الصهيونية، بل وتفوقت عليها للمرة الأولى تقريبًا.
وعلى المستوى الدبلوماسي، اعترفت دول أوروبية، مثل: أيرلندا وإسبانيا والنرويج، بدولة فلسطين، فيما أعلنت كولومبيا قطع علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل.
وفي الأمم المتحدة، وافقت الجمعية العامة في شهر مايو/ أيار الماضي بأغلبية ساحقة على دعم المساعي الفلسطينية للحصول على عضوية كاملة في المنظمة الأممية.
كل هذه التطورات الإيجابية التي صبت في صالح القضية الفلسطينية، لم تكن لترى النور لولا عملية "طوفان الأقصى"، التي أعادت إلى الأذهان الحق الأصيل للشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال، باعتباره حقًا مشروعًا أقرته المواثيق والمعاهدات الدولية.
لكن..
ونحن نتحدث عن تأثيرات الطوفان، والتي نشهد فصلًا جديدًا منها الآن في لبنان، الذي يتعرض لغزو بري إسرائيلي، يجب ألا ننسى أبدًا أن بطل هذه المرحلة الهامة من مراحل التحرير هو الشعب الفلسطيني الصامد، الذي دفع الثمن غاليًا من خلال عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى، والتدمير شبه الكامل لقطاع غزة، في مجزرة وحشية لم تتوقف فصولها المأساوية بعد.